منذ نحو ثلاثة أيام، تتردد في كواليس سياسية لبنانية وثيقة الصلة بالرياض معلومة، توجد نسبة عالية من تأكيد صحتها، تفيد بأن الملك عبد الله بن عبد العزيز يتجه جدياً إلى نقل سفير السعودية في لبنان علي العسيري من بيروت ليشغل منصب سفير المملكة في اليمن. وبموازاة هذه المعلومة، توجد معلومة أخرى من بيئة خليجية مطلة على كواليس السياسة السعودية تؤكّد أن قرار نقل العسيري اتخذ فعلاً، لكن توقيت إعلانه يجري الاستمهال في شأنه لبعض الوقت.
وعن خلفيات هذا القرار، سواء خرج إلى الورق الملكي أو لا يزال موضع تفكير، تروي مصادر خليجية قصة أسبابه المركبة على النحو الآتي:
من ناحية الشكل، ينسجم قرار النقل مع سياسة الترتيبات الدبلوماسية التي تجريها الخارجية السعودية منذ فترة، وفق خطة لإعادة مراجعة انتشار دبلوماسييها، وذلك إثر تكرر حوادث الاغتيال التي تعرض لها أخيراً موظفون في سفاراتها في غير منطقة من العالم.
وبحسب هذه المصادر، سينقل عسيري من بيروت إلى اليمن، نظراً إلى أن اختصاصه بالإرهاب والمجموعات الأصولية التكفيرية يتناسب مع الأوضاع المستجدة في هذا البلد الذي بات يمثّل موضع قلق متزايد للرياض، بسبب تعاظم نشاط تنظيم القاعدة في أراضيه المجاورة لها. كذلك يُنظَر إلى عسيري داخل السلك الدبلوماسي السعودي على أنه خبير بالتعاطي مع الأصوليات الإسلامية، مكافحةً واحتواءً، بأكثر مما ينظر إليه كدبلوماسي محنك. ومعروف أن عسيري، قبل تعيينه سفيراً في لبنان، كان يشغل منصب سفير بلده في باكستان، وذاع صيته حينها بأنه «لا يضاهيه نفوذاً في ذاك البلد إلا سفير الولايات المتحدة». وطوال فترة عمله في باكستان، كان يطلق عليه لقب «الثعلب السعودي»؛ إذ حقّق اختراقات جوهرية داخل البيئة الإسلامية للقاعدة. وعندما عُيّن سفيراً في لبنان، حدث انقسام في شأن النظرة إلى أسباب تعيينه بدلاً من عبد العزيز خوجة. وتردد في أوساط خليجية آنذاك أن مهمته في بلد الأرز لن تكون دبلوماسية أو سياسية، بل أمنية تتمثل بإنشاء صلات مع الحالة السلفية في لبنان ومواكبة عملية استنهاضها خلف الكواليس لتكون البديل القادر على خلق «توازن رعب» سُني في لبنان، في وجه حزب الله.
ويقول أصحاب هذا الرأي إن ما بدا ضعفاً دبلوماسياً للعسيري في لبنان، لا يعود إلى غياب مقدراته، بل لأنه واجه صعوبات في إثبات حضوره الدبلوماسي بين الطبقة السياسية اللبنانية، نتيجة ما شهدته تلك المرحلة من خلافات بين أمراء السعودية الأساسيين على تشخيص الأسلوب الأسلم للتعاطي مع لبنان، بعد مرحلة السابع من أيار عام ٢٠٠٨، التي أظهرت العبر المستخلصة من أحداثها أن كل الاستثمار المالي الضخم الذي صُرف على تسليح «قوة ردع سُنية» في بيروت، تبدّد في غضون ساعات قليلة على أيدي مقاتلي حزب الله. إثر ذلك، اتخذت المملكة قراراً بالانكفاء السياسي والمالي عن لبنان، وبلغ هذا القرار ذروته، بعد تسونامي صرف الأموال السخية على انتخابات ٢٠٠٩ التي أوصلت غالبية من ١٤ آذار إلى مجلس النواب، لتغلق بعدها السعودية «حنفية» المال. وفي هذه اللحظة تحديداً، عُيّن عسيري سفيراً في بيروت. وكان يفاجئ زواره من المستفيدين عادة من المال السعودي، عندما كان يبدأ حديثه معهم بالقول إن «مرحلة دفع الأموال انتهت». وسرعان ما توقف اللبنانيون المداومون على زيارة السفارة السعودية عن هذا التقليد، فيما لم يبد عسيري امتعاضاً، بل كان يشيع أنه مشغول بترتيبات إدارية داخل السفارة، في إشارة إلى عدم رغبته في إقامة صلات سياسية. وبموازاة انقطاعه عن الحياة الدبلوماسية، اهتم السفير بإنشاء علاقات تفصيلية مع البيئات السلفية اللبنانية وفق خطة استنهاض محكمة.
وتضيف المصادر نفسها: «يبدو أن مهمة بناء العملاق السلفي السني في لبنان، الذي يثير معادلات «توازن الرعب» مع حزب الله ، قد أنجزت على يدي عسيري على أكمل وجه. وجاء أوان توظيفها سياسياً. وهذا ما يدفع القيادة السعودية إلى التوجه لإنهاء فترة خدمته في لبنان، وتعيين سفير جديد تكمن مهمته في «ابتداع توظيف سياسي لقوة السلفية، التي لم تعد خافية بعد أحداث الشمال والطريق الجديدة في بيروت، داخل معادلة القرار السياسي اللبناني». وهنا تشير المصادر إلى أن خليفة عسيري سيكون شخصية دبلوماسية محنكة تشغل في هذه الفترة منصب سفير في دولة خليجية، يرجح أن تكون الكويت. لكن المصادر نفسها تستدرك بالإشارة إلى أن قرار نقل عسيري من لبنان أمر حساس بالنسبة إلى المملكة، لأن حركة الرجل محل اهتمام من الأميركيين، لمعرفتهم بخفايا مهماته، وبناءً عليه تحيط الرياض هذا الإجراء بالكثير من السرية والعناية في مجال توقيت إعلانه».

أهداف جديدة

وتؤكد المصادر أن السعودية بدأت مرحلة جديدة في علاقتها في لبنان، وتشدد على أن رسالة الملك عبد الله قبل يومين للرئيس ميشال سليمان هي إيذان ببدء تنفيذ قرار الملك بالعودة إلى التدخل بفاعلية في الساحة اللبنانية. ويمكن ملاحظة هذا المعنى من خلال تسريب نص الرسالة عبر وكالة الأنباء السعودية الرسمية، على غير العادة المتبعة في إبقاء مضامين مراسلات الملك بعيدة من الإعلام. والغاية من ذلك، بحسب المصادر نفسها، تحقيق هدفين هما قوام سياستها اللبنانية الجديدة، وقد شرحتهما، في الواقع، تلميحاً في نص الرسالة المؤلفة من شقين:
الأول، أرادت الرسالة، عبر تعبيرها عن القلق على «طائفة أساسية في لبنان» إعلام القوّة السنية الجديدة في لبنان (السلفيين) التي لم يعد خافياً حضورها فوق مسرح الحدث اللبناني بعد أحداث طرابلس والشمال وأحداث الطريق الجديدة، بأن السعودية عادت إلى الساحة اللبنانية لتدعمهم بوصفهم قوة الارتكاز الجديدة لنفوذها ومعركتها، وذلك وفق شعاراتهم المعلنة، وأهمها رفض «هيمنة» حزب الله وهزّ القبضة العسكرية بوجهه (رسالة أحداث الطريق الجديدة)، ودعم انخراطهم في دعم الثورة السورية بالموقف والسلاح (رسالة أحداث الشمال وطرابلس).
وتشدد هذه المصادر على أن الرياض، عبر أحداث الشمال ورفع صوت كتلة المستقبل بمطالبة الرئيس نجيب ميقاتي بالاستقالة، تريد إفهام الأخير بأنها «ضاقت ذرعاً بسياسة النأي بالنفس عن الحدث السوري».
أما الشق الثاني من الرسالة المطالب بعقد طاولة حوار وطني، فله بالنسبة إلى لسعودية معنى واحد، هو طرح موضوع نزع سلاح حزب الله، ولكن هذه المرة بالاتكاء على ورقة التهويل بالقوة السلفية المقاتلة.



نأي سليمان لا نأي ميقاتي

فيما وضعت قوى 14 آذار رسالة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز الأخيرة إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في خانة «الحرص على لبنان ومستقبله»، علّق نائب بارز في كتلة المستقبل على مضمون هذه الرّسالة بالقول إنها «سابقة بأن يتكلّم الملك بهذه اللغة»، وخصوصاً عندما أشار العاهل السعودي إلى «الجهد الذي تبذله كل من المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون في سبيل دعم لبنان اقتصادياً، مشيراً إلى أن هذه الجهود، مهما بلغ حجهما، ستظل قاصرة إن لم تستجب كافة الأطراف اللبنانية الفاعلة لها». ورأى النائب في هذا التصريح «تلميحاً بقطع هذه الدول مساعداتها إذا لم تتعاون معها الأطراف الداخلية اللبنانية». كذلك رأى في الرسالة السعودية «إدانة كاملة لميقاتي؛ لأن النأي الذي تتحدث عنه الرسالة هو ما يقوم به رئيس الجمهورية، ولا تقصد به ردّ نجيب ميقاتي على رسالة مندوب سورية في الأمم المتحدة بشار الجعفري» وتقول له إن «المملكة لا تعترف به ولن ينال رضاها». لكن تيار المستقبل لم ينظر بإيجابية إلى دعوة الملك إلى الحوار غير المشروط، وخصوصاً أن هذا الأمر، في حال حصوله، يُسقط من قوى 14 آذار ورقة تفاوضية رئيسية في وجه حزب الله، ويُسقط حصرية بند السلاح عن جدول أعمال طاولة الحوار.